
الانكماش المتواصل في لبنان يبدّد الأوهام
في تموز/يوليو 2025، سجّل القطاع الخاص في لبنان الانكماش الشهري الخامس على التوالي في نشاطه التجاري، ويأتي هذا التراجع المتواصل بعد فترة من التفاؤل الزائف التي أعقبت انتهاء العدوان الإسرائيلي الموسّع على البلاد، حيث ساد اعتقاد بانفراج الجمود السياسي وانطلاق عجلة الإعمار، غير أن فائض قوة إسرائيل وخرقها المتواصل لاتفاق وقف إطلاق النار وجمود السياسات الاقتصادية سرعان ما بدّدا هذه الآمال.
يمكن ملاحظة التقلبات في مستوى التفاؤل التي شهدها القطاع الخاص اللبناني في الأشهر الماضية اعتماداً على ما يسمى مؤشر مدراء المشتريات (PMI). تُعد مجموعة S&P العالمية المؤشر لصالح «بلوم إنفست»، عبر ردود مدراء المشتريات في 400 شركة في لبنان، في قطاعات الزراعة والتعدين والتصنيع والإنشاءات والبيع بالجملة والتجزئة والخدمات. وتتناول أسئلة الاستبيان الشهري 13 مؤشراً فرعياً، ويتراوح كل مؤشّر بين 0 و100، ويشير المعدّل الذي يزيد عن 50 إلى نمو محقّق بالمقارنة مع الشهر السابق، أما المعدّل الذي يقلّ عن 50 فشير إلى تراجع في النمو. ويجري احتساب المؤشر العام كمتوسط لخمسة مؤشرات هي: الطلبات الجديدة (30%)، الإنتاج (25%)، التوظيف (20%)، مواعيد تسليم الموردين (15%) ومخزون المشتريات (10%).
الحرب تصدم قطاع الأعمال
أدى العدوان الإسرائيلي الشامل على لبنان في أواخر أيلول/سبتمبر 2024 إلى إدخال الشركات اللبنانية في حالة صدمة إنتاجية ومالية ولوجستية. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2024، سجّل مؤشر مدراء المشتريات 45 نقطة، ليحقق أدنى مستوى له منذ شباط/فبراير 2021، وهي مرحلة كان لبنان يرزح في خلالها تحت تداعيات الانهيارات المالية والنقدية والمصرفية وجائحة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت.
في خلال فترة الحرب، واجهت الشركات تراجعاً حاداً في الإقبال على منتجاتها سواء في السوق المحلية أو في الأسواق الخارجية، إذ انخفض إجمالي الطلب في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بأسرع وتيرة له في 4 سنين، مع تركز معظم الاستهلاك المحلي على الاحتياجات الأساسية نتيجة فقدان السكان لوظائفهم وتراجع مداخيلهم أو خشيتهم من استمرار الحرب لفترة طويلة، بينما سجّلت طلبيات التصدير إلى الخارج أشدّ انكماش لها منذ أيار/مايو 2020، إذ أجبرت الحرب العملاء الدوليين على الشراء من دول أخرى وتفادي المخاطر وارتفاع تكاليف الشحن من لبنان وإليه.
من جانب آخر، شهدت مواعيد تسليم الموردين البضائع للشركات اللبنانية تأخراً ملحوظاً، مسجلة أعلى مستوياتها منذ أكثر من عام ونصف العام، حيث أظهر الاستطلاع أن المخاوف الأمنية الناجمة عن الحرب أعاقت حركة البضائع داخل لبنان. في الوقت نفسه، واجهت الشركات تضخماً في أسعار مستلزمات الإنتاج، إذ وصل مؤشر الأسعار إلى أعلى مستوى له منذ آذار/مارس 2023.
في الشهر الثاني من الحرب، بدا أن الشركات تمكنت من التكيف بشكل أفضل مع الأوضاع السائدة، إذ ارتفع مؤشر مدراء المشتريات من 45 نقطة في تشرين الأول/أكتوبر إلى 48.1 نقطة في تشرين الثاني/نوفمبر. وعلى الرغم من بقاء المؤشر دون مستوى 50، ما يشير إلى استمرار الانكماش، فإن وتيرته كانت أبطأ مقارنة بالشهر السابق.
3 أشهر من الوهم
لم يؤدِ انتهاء العدوان الإسرائيلي الموسّع على لبنان في 27 تشرين الثاني/نوفمبر إلى انتعاش فوري في النشاط الاقتصادي، إذ سجّل مؤشر مدراء المشتريات 48.8 نقطة في كانون الأول/ديسمبر 2024، مرتفعاً بشكل طفيف عن مستواه في الشهر السابق، لكنه ظل دون عتبة 50 نقطة، ما يدل على استمرار انكماش القطاع الخاص اللبناني وإن كان بوتيرة أقل حدة.
مع ذلك، انتشر بين الشركات اللبنانية شعور بأن الأوضاع تسير نحو التحسن بعد اتفاق وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من الخروقات الإسرائيلية المستمرة للاتفاق، فقد أبدت الشركات المشاركة في استطلاع آذار/مارس أكبر قدر من التفاؤل على الإطلاق حيال توقعاتها للاثني عشر شهراً القادمة.
في مطلع كانون الثاني/يناير 2025، عُيّن جوزيف عون رئيساً للجمهورية، ما أعطى مؤشراً على انحسار حالة الجمود السياسي، وتوقعت الشركات اللبنانية تدفق الاستثمار الأجنبي إلى لبنان، وإمكانية تحرك الدول العربية، خصوصاً الدول الخليجية، لدعم لبنان في مسار التعافي الاقتصادي.
بالتالي، تجاوز مؤشر مدراء المشتريات مستوى 50، مسجلاً 50.6 نقطة في كانون الثاني/يناير، وهو الرقم الأعلى منذ انطلاق المسح في أيار/مايو 2013. كما سجلت مؤشرات الطلبيات الجديدة والإنتاج ارتفاعاً للمرة الأولى منذ عام ونصف العام، وبأسرع وتيرة نمو منذ أيار/مايو 2013.
استمر هذا التفاؤل في شباط/فبراير، حيث سجل مؤشر مدراء المشتريات نمواً جديداً ليبلغ 50.5 نقطة، على الرغم من تباطئه الطفيف مقارنة بذروته في كانون الثاني/يناير، وفي استجابة لارتفاع حجم الأعمال الجديدة، عمدت شركات القطاع الخاص اللبناني إلى زيادة أعداد موظفيها للمرة الأولى منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
صحيح أن شركات القطاع الخاص اللبناني شهدت ضغوطاً تضخمية متزايدة على الأسعار في تلك الفترة، مع ارتفاع النفقات التشغيلية وتكاليف الشحن والتوريد، إلا أنها لجأت إلى الحفاظ على هوامش أرباحها عبر رفع أسعار منتجاتها وخدماتها في خلال شباط/فبراير، ليرتفع معدل تضخم أسعار الإنتاج إلى أعلى مستوى له منذ 23 شهراً.
اندثار الأوهام
في آذار/مارس، تراجعت موجة التفاؤل مع استمرار الخروقات الإسرائيلية للشهر الرابع على التوالي وجمود السياسات الاقتصادية المحفّزة للنمو، وجاء ذلك بالتزامن مع اشتباكات على الحدود مع سوريا. وبالتوازي مع عرقلة عملية إعادة الإعمار في لبنان، لم تسفر التعيينات الحكومية الجديدة عن الكثير، حيث بدا أن هدفها الأساسي هو تقاسم النفوذ بدلاً من دفع الإصلاحات الحقيقية قدماً. وفي الإطار الإقليمي، كثفت إسرائيل هجماتها على غزة لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير.
وسط هذه الأوضاع المحلية والإقليمية، انخفض مؤشر مدراء المشتريات في لبنان إلى 47.6 نقطة في مارس/آذار 2025 مقارنة بـ 50.5 نقطة في فبراير/شباط، مسجلاً أدنى مستوى له منذ اندلاع الحرب. ويعكس هذا التراجع انخفاضاً في الإنتاج والطلبات الجديدة، سواء في السوق المحلي أو في الصادرات، فضلاً عن الأنشطة الشرائية للشركات، وتزامن ذلك مع ارتفاع تكاليف الشحن بفعل الحرب، إلى جانب تراجع الحركة السياحية.
في الأشهر التي تلت آذار/مارس، سُجّلت خروقات جديدة لاتفاق وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل، تمثلت في شن غارات جوية على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، ما فاقم حدة التوتر في البلاد. وفي موازاة ذلك، صعّدت الولايات المتحدة ضغوطها لتسريع نزع سلاح المجموعات المسلحة غير الحكومية وربط المساعدات الخارجية بهذا الشرط، ما هز ثقة الشركات اللبنانية في إمكانية تحفيز الاستثمار والإنفاق المحلي.
حينها، أقدمت الحكومة الجديدة على إقرار بعض الإصلاحات، من بينها تعديل قانون السرية المصرفية، غير أن الإصلاحات الهيكلية الجوهرية ما زالت تواجه تعثراً.
في مطلع صيف 2025، انعكس العدوان الإسرائيلي على إيران لأسابيع عدة سلباً على حركة مطار رفيق الحريري الدولي وعلى عمليات شحن البضائع في المنطقة. وقد أدى ذلك إلى تصاعد التوترات الإقليمية وارتفاع تكاليف الشحن، ما أثر بشكل ملحوظ على مؤشر مدراء المشتريات، خصوصاً على مؤشري الطلبات الجديدة وطلبيات التصدير.
في يونيو/حزيران، توقّع 53% من المستجيبين لمسح مدراء المشترين تراجع مستويات النشاط في خلال الاثني عشر شهراً المقبلة، ما عكس تشاؤماً حاداً لدى القطاع الخاص، وكان حزيران ثالث شهر من انكماش قطاع الأعمال بعد فورة التفاؤل التي انتهت في شباط/فبراير.
في يوليو/تموز، أثارت زيارة المبعوث الأميركي توماس باراك مزيداً من التوتر، بعدما دفع باتجاه إصدار قرار ملزم من مجلس الوزراء اللبناني يقضي بنزع سلاح حزب الله، الأمر الذي عمّق الانقسامات السياسية الداخلية، ووضع الحكومة تحت ضغط دولي كبير، وأدى إلى تفاقم التوتر في بيئة الأعمال.
بالتالي، انخفض النشاط التجاري لشركات القطاع الخاص اللبناني مجدداً في يوليو/تموز 2025، وسجّل مؤشر مدراء المشتريات انخفاضاً إلى 48.9 نقطة في يوليو/تموز 2025، لتمتد السلسلة الحالية لانكماش النشاط التجاري إلى 5 أشهر.
شهدت الشركات اللبنانية في القطاع الخاص تراجعاً في حجم الأعمال الجديدة للشهر الخامس على التوالي كذلك، وشهد مؤشر الطلبيات الجديدة للصادرات تراجعاً واضحاً في تموز/يوليو، ما يعكس انخفاضاً حاداً في الطلب من العملاء الدوليين. كما قلّصت شركات القطاع الخاص في لبنان مشترياتها من المواد الخام والمكونات واللوازم الأساسية في خلال الشهر ذاته، مسجلة أسرع وتيرة انخفاض منذ 8 أشهر. بينما ظلت توقعات الشركات المشاركة في الدراسة متشائمة بشأن أداء النشاط التجاري خلال الاثني عشر شهراً المقبلة.